قصص تستحق القراءة: اناء الحساء

الخميس، 21 أبريل 2011

0

اناء الحساء


هناك كنوز كثيرة في الحياة لا نعي أهميتها و لا ندرك قيمتها بشكل كامل حتى تتضح لنا فجأة و على نحو غير متوقع، و هذا ما ينطبق على اناء الحساء الذي تستخدمه أمي.

و لازلت أستطيع تخيل هذا الاناء موضوعا على الموقد و هو في كامل بهائه بلونيه الأبيض و الأزرق، و محتواياته تفور من الغليان، و البخار يتصاعد منه و كأنه بركان ثائر. و عندما كنت أدخل من المدخل الخلفي (باب المطبخ) كنت أشم رائحة يسيل لها اللعاب و تبعث في النفس الارتياح و الطمأنينة. و سواء كانت أمي واقفة أمام الاناء تقلب محتوياته بملعقة خشبية طويلة أم لا، كنت على الفور أدرك أنني في البيت بمجرد أن أشم تلك الرائحة.

و لم تكن هناك وصفة ثابتة معروفة لحساء المينستروني (حساء من الخضر و المكرونة..الخ) التي كانت تصنعها أمي؛ حيث كان ذلك طبقا دائما، فقد عاشت أمي فترة صباها في جبال "بيمونت" بشمال ايطاليا، و هناك تعلمت سر عمل هذا الحساء من جدتها التي ورثته هي الأخرى عن جداتها السابقات.

و بالنسبة لأسرتنا الكبيرة المهاجرة كان هذا الحساء الذي تصنعه أمي بمثابة حماية دائمة من الجوع،و رمزا للأمان، و كان يتم اختيار مكوناته بشكل عفوي طبقا لما هو موجود بالمطبخ؛ حيث كنا نحكم على الحالة الاقتصادية لأسرتنا بناءا على محتويات هذا الحساء فعندما يكون المرق سمينا و به طماطم و مكرونة و بعض حبوب البقول و جزر و كرفس و بصل و شعير و لحم فهذه اشارة الى أن الأمور تسيرعلى مايرام مع أسرتنا، و أما اذا كان المرق رقيقا ممذوقا فهذا دليل على أن الأسرة تمر بأوقات صعبة و أزمات مالية. و لم نكن نترك الطعام أبدا، حيث كان ذلك معصية تغضب الله، فكنا لا نترك اناء الحساء الا و قد أجهزنا عليه.

و كان التحضير لهذا الحساء أمرا مقدسا عند أمي، و كانت عملية الطهو بالنسبة لها بمثابة الصلاة، فكانت تضع كل قطعة بطاطس و كل شريحة من الدجاج في الاناء و هي تشكر شكر الممتن المقدر للنعمة.و كنت دائما أتذكر أمي في المقولة التي تقول"فهي تستيقظ في وقت مبكر جدا و الدنيا لاتزال مظلمة، و تعد الطعام لأسرتها..ثم يستيقظ أطفالها و يسألونها دعواتها المباركة"

و لكن حدث ذات مرة أن تحول اناء الحساء هذا الى مصدر احراج لي، فقد كاد أن يكون سببا في فقدي صديق جديد قابلته في المدرسة.كان "سول" صبيا نحيفا أسود الشعر و كنت أعتبره صديقا غير عادي لأن أباه كان طبيبا و تقطن أسرته في أرقى أحياء المدينة.و كثيرا ما دعاني "سول" الى منزله لتناول العشاء، و كان لدى أسرته طباخا خاصا يرتدي زيا أبيضا،و يعمل في مطبخ مطلي بالكروم اللامع و تملؤه الأواني المتلألئة، و كانوا يقدمون طعاما جيدا، بيد أني كنت أجده غير شهي و يفتقد دفء و مذاق الطعام الذي تقدمه أمي في الأواني المغطاة بسواد اللهب، كما كان والد "سول" في غاية الأدب و الاحترام، و كان الحديث حول مائدة الطعام متكلفا مقيدا، و لاحظت أن لا أحد من الأسرة يعانق الآخر ! و لم أر "سول" يقرب من أبيه اللهم الا لمصافحته فقط.

أما في أسرتنا فالأحضان الدافئة بيننا هي عادة ثابتة -، و اذا لم تقبل والدتك ، عاقبتك قائلة:" ماذا دهاك!!؟".

و لكن في تلك المرة كان هذا كله مصدر احراج لي.
لقد أدركت أن "سول" يود أن يتناول العشاء في منزلنا، و لكني لم أكن أريد ذلك أبدا، فالفارق شاسع بين أسرتي و أسرته، فهم لا يأكلون في مثل هذه الأواني التي نأكل فيها، و الأم في هذه الأسرة ليست كأمي التي ما ان ترى أحدا يدخل المنزل حتى تسارع باعطائه ملعقة و طبقا.
و طالما كانت ترد علي بفخر قائلة: "و مالي و الناس.فأنا "روزينا"، و لا يرفض الحساء الذي أصنعه الا مجنون".

و في نهاية الأمر طلب مني "سول" بصراحة أن يأتي لتناول العشاء في منزلنا، و لم أجد بدا من الترحيب بذلك، و كنت أعلم أن ذلك سيجعل أمي في غاية السعادة، و لكني كنت قلقا فقد اعتقدت أن "سول" سيقطع علاقته بي تماما لو حدث و تناول الطعام مع أسرتي.
و عندما قلت لأمي:"لم لا تحضري بعض الأطعمة الأمريكية مثل الهامبورجر أو الدجاج المقلي؟"
نظرت الي نظرة حادة غاضبة ، فلم أحاول أن أكرر طلبي ثانية.
و أذكر أنني كنت في غاية الضيق و العصبية في ذلك اليوم الذي أتى فيه "سول" الى بيتنا، فقد استقبلته أمي و أعضاء الأسرة التسعة الآخرون بالأحضان و الربت على ظهره.

و سرعان ما جلسنا على المنظدة الثقيلة المنحوتة بالزخارف، و التي كانت مصدر فخر و ابتهاج لأبي ، و قد غطيت بمفرش ناعم فاخر براق.
ثم ما لبثنا أن وجدنا أطباق الحساء أمامنا.

و سألت أمي "سول" قائلة:"هل تدري ماهذا؟"

فأجاب "سول": "أهي مرق؟"

فردت عليه أمي:"كلا، انه حساء المينسترونى !ثم دخلت في شرح موضح مطول لفوائد المينسترونى، و كيف أنها تذهب الصداع و نزلات البرد و تشفي أوجاع و متاعب القلب، و عسر الهضم، و النقرس و أمراض الكبد.

و بعد أن وضعت أمي يدها على عضلات "سول" أقنعته بأن هذا الحساء سيجعله قويا مفتول العضلات مثل البطل الايطالي الأمريكي "تشارلز أتلاس"،و هنا شعرت بالارتباك و الاحراج موقنا أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي أرى فيها صديقي "سول"، فهو بالتأكيد لن يعود ثانية الى بيت كهذا به أناس غريبو الأطوار لهجتهم غريبة و طعامهم غريب.

ثم كانت دهشتي عندما أنهى "سول" طبقه بطريقة مؤدبة مهذبة و طلب طبقين آخرين ثم قال و هو يشرب الحساء-،"لكم أحب ذلك كثيرا".

و عندما اصطحبت "سول" الى الباب لتوديعه، أسر الي قائلا:" ان أسرتك أسرة عظيمة حقا، و ليت أمي تستطيع طهو هذا الطعام اللذيذ(يقصد المينسترونى) ، ثم تابع كلامه:"يا لك من فتى محظوظ ! "

فقلت في نفسي متعجبا :" فتى محظوظ ؟! "، بينما أخذ "سول" يواصل سيره في الشارع و هو يلوح بيده و يبتسم.

و اليوم فقط أدركت كم كنت محظوظا، و عرفت أن دفء المشاعر الذي أحس به "سول" كان أشد و أكثر حرارة من الدفء المادي و المعنوي لحساء "المينسترونى" الذي كانت تصنعه أمي.لقد كان ذلك الاحساس نابعا من الفرحة الصافية غير المتكلفة التي طالما أحاطت مائدة أسرة كان الحب هو طعامها الحقيقي.

و قد ماتت أمي منذ فترة طويلة، و من وقت موتها لم نذق " المينسترونى" مرة أخرى فقد جف اناؤها لتنتهي بذلك فترة رائعة من حياتي، بيد أن مشاعر الحب الصادق و الطمأنينة الممتزجة بالمكونات اللذيذة لحساء المينسترونى لا تزال تسري في أعماقي و أشعر بها حتى اليوم.

و استمرت صداقتي مع "سول" على مر السنين، و حضرت زفافه و كنت أكثر الحاضرين أناقة، و منذ فترة قمت بزيارته لتناول العشاء معه، و وجدت "سول" يعانق كل أطفاله و عانقتهم أنا أيضا، ثم أحضرت زوجته أطباق المرق الساخنة و كان مرق دجاج به خضراوات و قطع اللحم.

و سألي "سول": هل تعرف ما هذا؟"

فتساءلت مبتسما:"مرق؟".

فأجاب بطريقة ظريفة قائلا:"مرق ! انها مرق دجاج ! و هي تشفي من نزلات البرد و الصداع و عسر الهضم،كما أنها مفيدة لكبدك !" ثم غمز بطرف عينه.عندها شعرت و كأنني في منزل العائلة مرة أخرى

0 التعليقات:

إرسال تعليق